في بلد بعيد لا نعرف أسمه ولا حدوده ولا تاريخه. في بلد غير موجود على خارطة العالم، كانت هناك جلسة غير اعتيادية بدا فيها أحد المستثمرين لأحدى الجامعات الموجودة في مركز العاصمة غير راض عما وصل إليه حال جامعته. فمنذ أن باع المستثمر أغنامه وأبقاره وأفتتح هذه الجامعة وإيراداته منها لا ترضيه. ركز غضبه وصراخه على رئيس الجامعة الذي بدا مرعوبا وكأنه دجاجة أمام ذئب جائع. كان عدد الطلاب المقبولين في هذه السنة الدراسية الجديدة أقل من أعداد الطلاب المقبولين في الجامعات الأهلية الاخرى لاسيما جامعات المستثمرين الآخرين اصدقائه وأعدائه. في مثل هذه الاعمال، كل مستثمر هو خصم للمستثمر الآخر وأن كان صديقه أو زميل له في مهنته السابقة والحالية. فالمستثمر الذكي (أو قل المستثمر المحظوظ من وجهة نظر هؤلاء المستثمرين) هو من يتحصل على أكبر عدد ممكن من الطلاب المقبولين الجدد كل سنة وإن لم تستوعب جامعته/كليته العدد، وإن لم يهيأ مستلزمات الدراسة الكافية والكفوءة من قاعات وأساتذة وموظفين وقاعات دراسية ومختبرات ومساحات. المهم عند المستثمر هو مزيد من الطلاب كل سنة ومزيد من الإيرادات ومزيد من الأرباح. قرر رئيس الجامعة ان يعقد اجتماعا هاما وعاجلا لعمداء الكليات ورؤساء الأقسام العلمية فيها وبحضور المستثمر الذي أتخذ مقعده بجانب رئيس الجامعة. وبدأ الأخير الاجتماع متحدثا عن أهمية الجامعة الأهلية التي يعملون فيها وما على العمداء ورؤساء الأقسام العلمية والمدرسين من واجبات وجهود لزيادة أعداد الطلاب المقبولين كل سنة لديمومة عملهم فيها واستمرارهم باستلام رواتبهم. وإن المطلوب هو القيام بإجراءات من شأنها أن ترفع سمعة الجامعة وتجذب الطلاب الجدد وسحب الطلاب المسجلين في الجامعات الأخرى. كان الجميع ينصتون باهتمام شديد لحديث رئيس الجامعة وهم ينحنون برؤوسهم تعبيرا عن موافقتهم لكل ما يقوله ونظراتهم تنسل بخجل إلى المستثمر الغاضب عليهم. بدأ رئيس الجامعة يحدد ما مطلوب منهم؛ لا تنسوا أننا جامعة خاصة والمنافسون لنا في الساحة كثيرون؛ لا تضغطوا على الطلاب ودعوهم على راحتهم في الحضور والمشاركة في المحاضرة؛ على المدرس أن يشرح لهم المادة العلمية ويعيدها متى ما طلب منه الطالب ذلك؛ وأن لا يطالب الطلاب بتحضير المادة؛ وأن يتساهل معهم بالأسئلة وتصحيح الامتحانات ويفتح يده في منح الدرجات؛ لا نريد طالبا راسبا؛ نريد نسب نجاح عالية فقط؛ لا نريد مدرسا لديه طالب راسب. ناقش أحد العمداء رئيس الجامعة في نسب النجاح العالية، حيث أن هذه النسب العالية قد لا تكون مقبولة من قبل وزارة التعليم العالي. أجابه رئيس الجامعة: أنت ما عليك بالوزارة، هذا شغلنا نحن وليس شغلك. نقاش هذا العميد أزعج رئيس الجامعة وأغضب المستثمر الذي مسك ورقة أمامه وبدأ يكتب بخط فوضوي رديء ودفعها إلى رئيس الجامعة. كانت كلماته المشوهة؛ شوف لي طريقة وخلصني من هذا. التفت رئيس الجامعة إلى المستثمر وأحنى رأسه إلى المستثمر معبرا عن طاعته للأمر. طبقت الجامعة سياستها الجديدة، وخلال سنوات قليلة بدأ عدد الطلاب المقبولين يتزايد حتى فاق ما تتحصل عليه الجامعات الاخرى وتعاظمت إيرادات الجامعة وانخفضت مصاريفها مما زاد من أرباحها بشكل غير متوقع. في الوقت نفسه تضخمت مسؤوليات ومهام وجهود التدريسيين لعدم تناسب هذه الزيادة مع عدد المدرسين الذي أنخفض بسبب سياسة الجامعة التي لا تهتم بحال المدرسين واحتياجاتهم. حينما عَلمَ مستثمري الجامعات الاخرى بهذه الزيادة، بدأوا يتنافسون فيما بينهم لكسب أكبر عدد ممكن من الطلاب الجدد. فقررت أحدى الجامعات أن لا تحاسب طلابها على غشهم في الامتحانات وأمرت مراقبي الامتحانات أن يُبعدوا نظرهم عن الطلاب إثناء أدائهم الامتحانات الشهرية والنهائية. وبدأت جامعة أخرى بعدم محاسبة طلبتها على الغياب ويمكن للطالب أن يدخل الامتحان النهائي وإن لم يحضر قاعات الدراسة يوما أو حضر فقط خلال الامتحان الشهري خلال فصل دراسي كامل، في حين أن جامعة ثالثة منحت شهادات تخرج لطلابها وهم في بيوتهم أو أعمالهم. ووقفت إدارة جامعة رابعة مع طالب تجاوز على أحد المدرسين فيها وسهلت نجاحه وتخرجه. وبدأ تنافس الجامعات الأهلية يتعاظم، ومعظمها تبتدع طرقا متنوعة للمحافظة على ما لديها من طلاب ولجذب أعداد جديدة وكبيرة من الطلاب الجدد. وتخرج عشرات الالاف من الطلاب سنويا من هذه الجامعات الأهلية، لكنهم لم يجدوا وظائف شاغرة في القطاع الخاص لأن مستواهم العلمي محدود ولا يحملون من شهاداتهم إلا ورقها ولأن جميع الوظائف شُغلت من الأجانب الذين يعتبرون أفضل وأرخص كلفا من مواطني البلد. وجميع الطلاب المتخرجين في ذلك البلد البعيد الذي لا نعرف أسمه ولا حدوده ولا تاريخه وهو غير موجود على خارطة العالم (وليس أسمه العراق) ينتظرون التعيين في المؤسسات الحكومية