حدثني صديق مختص بشؤون المياه وسلامتها، أن العراق يمكن أن يوفر لخزينته مئات الملايين من العملة الصعبة لو اتخذ قراراً جدياً وصارماً، ألزم فيه أمانة بغداد ومن خلالها دائرة إسالة المياه، ودوائر البلدية في المحافظات، بتحسين نوعية المياه الواصلة إلى البيوت، وجعلها صالحة للشرب، كما كان في السابق، قبل أن تغزو (موضة) المياه المعلبة التي نستوردها بأثمان تثقل ميزانية الدولة. وقد وجدتُ في حديث الصديق، نقطة مهمة، ظلت بعيدة عن أذهان من بيده أمر البلد وشؤونه الاقتصادية، وعن العباد الذين يعانون من تكلفة مالية خارجة عن المألوف تتمثل بشراء صناديق المياه المعلبة لأسرهم، أو تأسيس منظومات مياه صغيرة للتنقية داخل بيوتهم، أما الذين غير قادرين على هذه أو تلك وهم كُثر، فلهم رب يعينهم. ملايين من علب المياه المستوردة، ومثلها من المصنعة محلياً بمعامل مجازة، وأضعافها من المعلبة تحت جنح السرية في البيوت والبساتين والخرائب، تشكل ظاهرة يومية مؤسفة لافتة للنظر، من دون أن تنال من الاهتمام ما تستحق، ترى إلى متى يبقى قطار المياه المعلبة يسير دون كوابح؟ وأنا أكتبُ هذه السطور، لاحت أمامي صورة مدير عام اسالة ماء بغداد في ثمانينيات القرن المنصرم، وكنتُ في مكتبه لإجراء حوار صحفي، قبل نحو 40 عاماً، وحين سألته عن صلاحية مياه الاسالة للشرب، لم يجبني، بل قام من وراء مكتبه، ماسكاً يدي، وسار إلى غرفة صغيرة ملاصقة لمكتبه، فيها رجل يقوم بواجبات الضيافة، ومد يده إلى براد ماء عادي مرتبط بأنبوب مياه الاسالة، فملأ قدحاً من ماء البراد، وشربه أمامي، قائلا بابتسامة الواثق: (هذه مياهنا.. صالحة للإرواء، مثلما هي صالحة للاغتسال، وفقاً للمواصفات المعتمدة عالمياً، وتخضع إلى الفحص العشوائي من قبل منظمات الصحة العالمية من خلال مكاتبها في العراق). وهنا أسأل: هل بادر المسؤولون إلى الاستفسار عن ظاهرة انتشار المياه المعلبة في الأسواق، وتقاطع الطرق وفي الأكشاك قرب التجمعات الطلابية، ومرائب حافلات النقل وغيرها، ولماذا فقد المواطن الثقة بمياه الاسالة في بغداد والمحافظات؟. إن ما يثير العجب أن استيرادات كميات من هذه المياه المعلبة، تتم من دول بعضها يعاني أصلاً من العطش لعدم وجود أنهر او ينابيع مياه نقية فيه، كالكويت مثلاً، حرام أن تذهب ملايين الدولارات هدراً لاستيراد تلك المياه، ولدينا آلاف الموظفين في دوائر اسمها (اسالة المياه).. حرام!..